لم تفلح قمة الكويت في تحقيق خطوة واحدة باتجاه الخروج من الأزمات الحادة التي يعيشها النظام العربي، والتي أوصلت الوطن العربي لما هو أسوأ وأخطر مرحلة في تاريخ الأمة، والسبب في ذلك أن النظام العربي الذي يقرر مصير الأمة بحكم سلطاته، لا يستمد هذه السلطات من الأمة. وهناك عدد من الأقطار العربية متورطة بأجندات خارجية، أسهمت بتفتيت النسيج الاجتماعي، وانتشار المظاهر الطائفية والمذهبية، وحالة الانهيار العربي الذي نعيشه في هذه المرحلة. ويغلب على العلاقات العربية- العربية حالة التصادم، واحتدام الصراع، وتشكيل المحاور والانقسام، والتمحور في داخل المحور الواحد، وقد جاءت القمة العربية بعد سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من قطر، مما أسهم بتوسيع الهوة بين أطراف النظام العربي، وظهور الخلاف القطري- السعودي إلى العلن. ورغم حجم الخلافات العربية والاحتقانات، سادت أجواء دبلوماسية هادئة في القمة قادتها الكويت، لتجنيب القمة من الانهيار. لكن هذا لا يعني أنّ القمة نجحت، بل على العكس من ذلك، فقد حاولت الهروب من مواجهة الملفات الرئيسية، واختزلت القضية الفلسطينية برفض يهودية الدولة، على الرغم من استحضار عبارات الماضي، “القضيّة الفلسطينية قضية العرب الأولى”، إلا أنّ التداولات والبيان الختامي لا يعبر عن جدية الموقف العربي، فقد اكتفى البيان باستخدام عبارات فضفاضة مثل “دعوة مجلس الأمن إلى تحمل مسؤولياته لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس حل الدولتين بحدود 1967”. إنّ دعوة العرب لمجلس الأمن، لا تختلف عن دعوة تتعلق بالتضامن مع شعب دولة في إحدى القارات، وليست قضية العرب الأولى. أقامت أمريكا الدنيا ولم تقعدها ضد روسيا حول استفتاء القرم، ومخالفة روسيا للقانون الدولي، في حين تكتفي القمة العربية بمناشدة مجلس الأمن في الطلب من “دولة” مارقة “إسرائيل” التي أدارت ظهرها لقرارات الأمم المتحدة كافة وتمارس القتل والاضطهاد يوميا للشعب الفلسطيني، وتبتلع الأراضي في بناء المستوطنات والجدار، وتهويد المقدسات.

أجمع زعماء الدول الغربية على إدانة روسيا لما جرى في شبه جزيرة القرم، ووصفوه بانتهاك للسيادة الأوكرانية وللقانون الدولي، وقد حاولت أمريكا وحلفاؤها استصدار قرار من مجلس الأمن بعدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء الذي جرى في القرم حول مستقبل المنطقة، كما فرضت الدول الغربية عقوبات على شخصيات روسية وأوكرانية. وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بتجميد حسابات تلك الشخصيات وفرض حظر السفر عليها، ومن باب التعبئة والتحشيد والتهويل قام نائب الرئيس الأمريكي بايدن بزيارة دول البلطيق الثلاث ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا إضافة إلى بولندا للتأكيد لهم أن بلادهم تحت مظلة حلف شمال الأطلنطي “الناتو”.

بينما كان الفريقان منشغلين بترتيبات جدول أعمال مؤتمر جنيف 2، كانت قيادة الجيش السوري تضع لمساتها الأخيرة لمعركة القلمون، كان وفد المعارضة يوجه الرسائل التطمينية لشركائه الذين قاطعوا المؤتمر، مفادها، “أن الضغوط التي أوصلتهم إلى طاولة المفاوضات، لن ترغمهم على الوصول لحل وسط مع النظام السوري”. فكلا الطرفين ذهب إلى جنيف متمسكا بمواقف مسبقة، لذلك لم يكتب للمؤتمر النجاح، فالذهاب إلى طاولة المفاوضات بين فريقين متحاربين يقتضي تقديم تنازلات مشتركة، إلا إذا كان المطلوب من أحد المؤتمرين التوقيع على صك استسلام، وهذا لا ينطبق على الحالة السورية.

واصلت الأزمة الاوكرانية تفاعلها بين روسيا والدول السبع الكبرى، كما واصلت الحكومة الأمريكية تهديداتها باتخاذ اجراءات عقابية ضد روسيا، معتقدة انها تملك الادوات الكافية لإرغام روسيا على التراجع، وعلى الرغم من التناغم الاميركي الاوروبي حول الأزمة، الا ان الاجراءات العقابية المنوي اتخاذها لن تثني روسيا عن موقفها في الدفاع عن مصالحها، والسبب في ذلك ان المواقف السياسية تنطلق اساسا من المصالح الاقتصادية، وان العلاقات الاقتصادية بين الدول الكبرى اصبحت متداخلة ومتشابكة بشكل كبير في ظل العولمة الرأسمالية، التي ادت الى فتح اسواق العالم امام انسياب السلع واستثمارات روؤس الاموال. روسيا اليوم ليس الاتحاد السوفيتي الذي وضع عليه ستارا حديديا من قبل الدول الغربية.
ففي السنوات الاخيرة اتسع النشاط الاستثماري الروسي في الخارج بشكل ملحوظ، وشهدت الاسواق العالمية خلال العامين الأخيرين تدفق نحو ستين مليار دولار سنويا من روسيا. ومن المعروف ان عددا من الدول الاوروبية تعتمد بشكل شبه كامل على النفط والغاز الروسي، اضافة الى اعتماد اهم الدول الاوروبية مثل ألمانيا وفرنسا وايطاليا على حوالي 30% من احتياجاتها من النفط والغاز الروسي. وحتى أمريكا ترتبط بعلاقات تجارية واسعة مع روسيا حيث بلغت قيمة التجارة بين البلدين اكثر من 38 مليار دولار عام 2013، كما أن للشركات الأميركية استثمارات مباشرة في روسيا قيمتها حوالي 14 مليار دولار. وقد تسربت معلومات للصحافة ان بريطانيا والمانيا قد لا تذهبا بعيدا بموضوع المقاطعة الاقتصادية، بل اكثر من ذلك يمكن ان تسهم المانيا بدور ما في تخفيف حدة التوتر بين أمريكا وروسيا، في محاولة للوصول الى حل وسط .
وفي المقابل حذّر مجلس الاتحاد الروسي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من اتخاذ عقوبات ضد روسيا بسبب الوضع في أوكرانيا، واكد انه سيتخذ تدابير مماثلة، وهناك تلويح بالتخلي عن الدولار كعملة احتياط، والتوقف عن دفع أي قروض إلى البنوك الأميركية إذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا بسبب الأزمة الاوكرانية.
لكن السؤال المطروح ما هي الاسباب الحقيقية وراء انفجار الأزمة الاوكرانية، وما علاقة الأزمة الاوكرانية بالأزمة التي تمر بها المراكز الرأسمالية، وما يجري في سوريا والعراق وليبيا وفنزويلا وغيرها من بؤر التوتر التي فجرتها الولايات المتحدة الاميركية في مختلف ارجاء المعمورة. ان الدور المتنامي لاقتصادات الدول الصاعدة وبشكل خاص مجموعة بركس يعتبر من اهم اسباب فشل المراكز الرأسمالية في الخروج من ازماتها المالية والاقتصادية، بعد ما اصبحت منافسا قويا للسلع المنتجة في الدول السبع التي كانت تهيمن على التجارة العالمية لوقت قريب، وانطلاقا من هذه الرؤية فالأزمة السورية استهداف روسي، كما هي استهداف للدولة السورية نفسها لصالح الامبريالية الاميركية والكيان الصهيوني، ومن بين اهداف العدوان على سوريا ابعاد روسيا عن البحر الابيض المتوسط، وافساح المجال امام تمرير الغاز القطري الى اوروبا واستبدال الغاز الروسي بالقطري. كما كان التدخل الاطلسي في ليبيا استهدافا لروسيا والصين لاستبدال الاستثمارات الروسية والصينية في ليبيا الى استثمارات اميركية واوروبية غربية.
لذلك تعتقد روسيا ان ما يجرى في اوكرانيا استهداف للاستقرار الروسي سياسيا واقتصاديا وامنيا، خاصة وان 80% من الغاز الروسي يمر من الاراضي الاوكرانية. ومن المعروف إن رفض الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش التوقيع على اتفاقية تعاون مع الاتحاد الاوروبي في الخريف الماضي وراء الموقف الغربي. فالولايات المتحدة الاميركية تدرك تماما خصوصية العلاقة الروسية الاوكرانية، فهي تشكل العمق الاستراتيجي لروسيا، وتشكل ضمانا لأمنها القومي، ومن هنا جرى التحرك الروسي تجاه شبه جزيرة القرم، وتبعه تصويت برلمان القرم على الانضمام لروسيا، لسد الطريق امام وصول الحلف الاطلسي الى مواقع استراتيجية مجاورة لروسيا.
ان تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية التي تواجه أمريكا من جهة والثمن الباهظ الذي دفعته أمريكا في العراق وافغانستان وغيرها جعلها غير قادرة على التورط بحروب اقليمية مباشرة، لذلك تسخر اجهزتها الامنية في القيام بنشاطات تخريبية، وصناعة “ثورات معلبة” تصدرها لمواجهة بعض الدول التي تعيق او تعرقل مشروعها الامبريالي. فقد كشفت وسائل الاعلام عن تسجيل مسرب لمكالمة هاتفية بين المفوضة الأوروبية كاثرين آشتون ووزير خارجية إستونيا أن جهة في المعارضة الأوكرانية قامت بتجنيد مسلحين قتلوا متظاهرين ورجال أمن في ميدان الاستقلال في كييف. وقال الوزير الإستوني إن كل الشهادات تدل على أن جميع القتلى بطلقات نارية من رجال الأمن والمتظاهرين قتلوا على يد نفس المسلحين، وليس من قبل سلطات يانوكوفيتش. فالجهات الممولة للإرهاب في سوريا وغيرها من البلدان العربية هي نفسها التي تمول وتجند المسلحين لقتل المتظاهرين في كييف، وهي نفسها التي تقوم بأعمال التخريب في فنزويلا ومحاولة النيل من السلطة الشعبية فيها.

     حكومات تجيء، وأخرى تذهب، وأزمات تتفاقم، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وامنيا، فالنهج السياسي والاقتصادي الذي فرخ الأزمات ما زال قائما، لا حلول منهجية للأزمات. اُسقط نظام مبارك، وجاءت حكومة الاخوان بقيادة مرسي، الذي وعد بالتصدي للفقر والبطالة وتحقيق العدالة، وأسقط مرسي ونظامه، لعدم الوفاء بالوعود، وجاءت خارطة الطريق التي تبناها وزيرالدفاع بحكومة ببلاوي. اما النهج الاقتصادي والاجتماعي لم يتبدل، البطالة تتسع والفقر يزداد.

    بغض النظرعن اللون السياسي للحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ عهد الردة، التي قادها انور السادات في سبعينات القرن الماضي، الى الرئيس المكلف ابراهيم محلب، مرورا بحكومة مبارك ومرسي وببلاوي، فالجامع المشترك بينهم سياسات اقتصادية تنتمي للمدرسة الليبرالية المتوحشة، التي عرضت مئات الملايين من البشر للفقر والجوع والتشرد. فإذا كانت هذه السياسات قادت اقتصادات المراكز الرأسمالية الى ازمات عميقة، تجلت مظاهرها بالركود الاقتصادي والانكماش، والبطالة، وأدت الى افقار الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية، فأن نهج الليبرالية المتوحشة ادى الى حرمان البلدان النامية -وفي عدادها البلدان العربية- من تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، واستثمار مواردها. وتبديد ثرواتها، وإغراقها بالمديونية، واخضاعها للتبعية السياسية والاقتصادية. وفرخت قيادات فاسدة مستبدة، الامر الذي اشعل ثورات الغضب في عدد من الاقطار العربية.