قبل ابداء الرأي في التعديلات المطروحة على قانون ضريبة الدخل، لا بد من الاشارة الى أن هذه التعديلات يفترض أن تكون جزءا من حزمة اجراءات في مواجهة عجز الموازنة، صحيح أن تعديل قانون ضريبة الدخل يعتبر مطلبا وطنيا، بهدف اعادة توزيع الدخل وتحقيق العدالة الاجتماعية وزيادة ايرادات الخزينة، الا أن ارتباطه بخطوات حكومية تتعلق برفع أسعار المياه والكهرباء بعد اجراءات الرفع المتلاحقة لأسعار المشتقات النفطية، سوف يترك آثارا سلبية على الاقتصاد الوطني عامة، وعلى الغالبية العظمى من المواطنين خاصة. صحيح أن الدولة معنية بتوفير المال لتخفيض عجز الموازنة، لكن ذلك لن يتحقق من خلال الجباية، فزيادة الأعباء على المواطنين اجراء انكماشي يسهم في استمرار تباطؤ النمو الاقتصادي ويفاقم الأزمة.
لذلك ينبغي أن تقلع الحكومة عن فكرة رفع أسعار الكهرباء عامة وعن الصناعة خاصة من حيث المبدأ حتى لا تتسبب بكارثة اقتصادية، سيكون لها آثار اجتماعية خطيرة، ومن باب التذكير فان القطاع الصناعي يوظف 239 ألف عامل وعاملة، ويتعرض لمنافسة حادة من قبل دول عربية وآسيوية خاصة في ظل تحرير أسواق التجارة. علما أن هناك بدائل أمام الحكومة، أولا العمل على تخفيض تكلفة الكهرباء، فهناك تأكيدات من قبل ذوي الاختصاص بأن قطاع الكهرباء يعاني من تراجع كفاءته في التصنيع والتزويد، ما يرفع تكلفة الانتاج، عدا عن ضرورة العمل على تنويع مصادر الطاقة، وهي متاحة محليا سواء من خلال الطاقة البديلة أو بواسطة الصخر الزيتي. أما الجانب الثاني الذي يجب تحقيقه الى جانب الاصلاح الضريبي التفكير الجدي بتخفيض النفقات العامة للدولة، ولن أدخل بتفاصيل التخفيضات، فالمقال لا يحتمل وقد تناولت هذه التخفيضات في مقالات سابقة اضافة الى مكافحة الفساد.
عودة الى مشروع قانون ضريبة الدخل الذي قدمته الحكومة الأسبوع الماضي يمكن ملاحظة ما يلي: هناك تعديلات جوهرية أبرزها اعتماد مبدأ الضريبة التصاعدية ورفع سقف الضريبة الى 40% على الدخل الذي يزيد على مليوني دينار لقطاعات البنوك والشركات المالية والصرافة والتأجير التمويلي. أما شركات الاتصالات والتأمين والتعدين والوساطة المالية فقد طرح المشروع لأعلى سلم الضريبة التصاعدية الى 40% للدخل الذي يزيد على مليون دينار، والمجموعة الثالثة، الأشخاص الاعتباريين والمقصود هنا الشركات التجارية والصناعية المختلفة وغير الواردة في المجموعتين الأولى والثانية، ويصل السلم الضريبي لهذه القطاعات الى 25% بعد الدخل الذي يزيد عن 500 الف دينار. أما الشخص الطبيعي فقد خفض المشروع الاعفاءات عن الأفراد من 12 ألفا الى 9 آلاف والأسرة من 24 الفا الى 18 ألفا، مع فرض ضريبة تصاعدية تبدأ بـ 5% وتصل الى 30% على الدخل الذي يزيد على 50 الف دينار.
الملاحظ أن المشروع أبقى على النص نفسه الذي ورد في القانون المؤقت رقم 28 لعام 2009 والذي تضمن مساواة القطاع الصناعي بالقطاع التجاري، الأمر الذي يحرم القطاع الصناعي ميزة وجود سياسة ضريبية تفضيلية للقطاع الصناعي، فالاصلاح الضريبي يعتمد على مبدأ الضريبة التصاعدية على الشركات والأفراد، والمشروع قدم خطوة مهمة في هذا الاتجاه بما يكفل زيادة إيرادات الخزينة، وتحقيق العدالة الاجتماعية. اضافة الى استخدام السياسة الضريبية كأداة لتحفيز الاستثمار في القطاعات المنتجة والمشغلة للعمالة المحلية. وهذا لم يتحقق في المشروع المقدم ، لذلك أعتقد أنه من الضروري تخفيض نسبة الضريبة على القطاع الصناعي.
أما القطاعات التي ما زال المشروع عاجزا عن الوصول اليها، القطاعات الطفيلية، فقد حان الوقت للوصول الى المضاربات المالية والعقارية، بفرض ضريبة على أرباح المتعاملين في البورصة والعقارات، والمتاجرة في القطاعات التي تحقق أرباحا خيالية أسوة بالمستثمرين في القطاعات الأخرى في البلاد، حيث يمكن توفير آلية مناسبة لتحديد صافي الربح والخسارة للمتعاملين من خلال المؤسسات المعنية. وان سياسة ضريبية من هذا النوع تحفز المستثمرين الانتقال من القطاعات الطفيلية الى القطاعات الانتاجية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن جزءا مهما من أرباح هذه القطاعات تتحول الى خارج البلاد.
أما النقطة الأخيرة فان الاصلاح الضريبي يجب أن يشمل ضريبة المبيعات باعادة هيكلتها وتخفيضها الى نقطة الصفر على الغذاء والدواء ورفعها على سلع الرفاهية. وسحب صلاحية الحكومة بتحديد نسبة الضريبة الخاصة لأنها تشكل مخالفة دستورية، تصل أحيانا الى نسب مرتفعة كالمشتقات النفطية على سبيل المثال، وحصر أي تعديل بالمؤسسة التشريعية .

ودع الشعب الفنزويلي وفقراء العالم في الخامس من آذار مناضلا ثوريا وقائدا أمميا مميزا، “هوغو تشافيز” قائد الثورة البوليفارية، فمنذ أربعة عشر عاما حصل شافيز على ثقة الشعب الفنزويلي عبر صناديق الاقتراع وانتخب رئيسا لفنزويلا عام 1999 وحصل على 56% من الأصوات، ومنذ ذلك التاريخ وهو يتمتع بثقة الشعب، وأعيد انتخابه لعدة دورات كان آخرها في نهاية العام الماضي، الا أن المرض لم يمهله. وفي آخر انتخابات نيابية فاز الحزب الاشتراكي الموحد الذي كان يقوده تشافيز بالانتخابات التشريعية بحوالي 60 % من مجلس النواب. لقد أسهمت السياسات الليبرالية واملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين التي كانت سائدة قبل وصول تشافيز الى السلطة في تعميق الاحتقانات الاجتماعية.
تميزت التجربة الفنزويلية بالمواءمة بين التعددية السياسية والفكرية في اطار الدولة الديمقراطية عبر صناديق الاقتراع، وبتحقيق الاشتراكية، (اشتراكية القرن الحادي والعشرين) كما يُجرى وصفها من دون المساس بالحريات العامة حيث تعرف العالم على نموذج جديد من الاشتراكية، مختلفا عن اشتراكية الأحزاب الشمولية التي استندت على قاعدة امتلاك “الحقيقة المطلقة”، فقد صانت الثورة البوليفارية حرية الرأي والتعبير والتنظيم والتظاهر، وأفسحت المجال أمام المعارضة، التي جندت صفوفها وواصلت عملها بحرية مطلقة مستخدمة امكاناتها غير المحدودة في مواجهة الثورة الاشتراكية، رغم لجوئها الى العنف وقيامها بانقلاب عسكري في نيسان عام 2002 مدعوم من الاحتكارات الراسمالية، ومن قبل الدوائر الامبريالية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية. الا أن الفئات الشعبية تصدت بحزم للانقلابيين وأعادت السلطة الشرعية بعد 48 ساعة على الانقلاب.
إن غياب تشافيز يعتبر خسارة كبرى ليس للشعب الفنزويلي فحسب، بل ولفقراء العالم أجمع، وعزاؤنا فيه أنه ترك ارثا ثوريا ودولة ديمقراطية وحزبا مناضلا يستمد قوته من قاعدة شعبية تمثل الفقراء والكادحين الذين تمتعوا بمكاسب ملموسة عبر السلطة الشعبية بتوفير التعليم المجاني الشامل، وتقديم الخدمات الصحية للفقراء والمسحوقين، الذين أصبحوا يدافعون عن مصالحهم وحقوقهم المكتسية ومنجزاتهم الاجتماعية.
إن اهمية المنجزات التي حققتها الثورة الفنزويلية أنها أسهمت بتحالفها مع الثورة الكوبية باعادة تشكيل القارة الاميركية على أسس جديدة، بسقوط الأنظمة الديكتاتورية وانتخاب أنظمة ديمقراطية اجتماعية، لتحل مكان الأنظمة الديكتاتورية التي كانت تعرف بجمهوريات الموز، والأنظمة البوليسية التي تروع المواطنين وتمارس القهر والاضطهاد باشكالهما كافة. والأنظمة الغارقة بالفساد وتجارة المخدرات.
جاء انتصار الثورة البوليفارية لاعلان بزوغ فجر جديد في القارة الاميركية، أوصل قيادات شعبية من طراز جديد عبر صناديق الاقتراع الى الحكم في عدد من الدول، يمثلون نهجا ديمقراطيا اجتماعيا، وبعض هؤلاء القادة من صفوف الحركة النقابية والعمالية مثل الرئيس البرازيلى السابق، لولا دا سيلفا، الشخصية المميزة الذي قاد بلاده لدورتين بجداره. وحققت البرازيل في عهده نموا اقتصاديا متميزا، لتصبح سادس أكبر اقتصادات العالم وتحتل مكان بريطانيا بفضل وتائر النمو الاقتصادي. أما الرئيس البوليفي فهو من صفوف الحركة النقابية ويمثل حالة متقدمة في تاريخ الدولة ويعتبر انتصاره في الانتخابات امتدادا لمبادئ القائد التاريخي جيفارا، اضافة الى النجاحات التي حققتها الارجنتين ونيكارغوا والاكوادور وغيرها، في مواجهة الفقر والتخلف وبناء اقتصادات وطنية مستقلة وصياغة نموذج اقتصادي جديد، فقد نجحت هذه الدول في تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتحرير اقتصاداتها من التبعية، وتحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، لدرجة أن منظمة (اونكتاد) المنبثقة عن الأمم المتحدة للتجارة والتنمية اعترفت ان هذا النموذج الاقتصادي يشكل بديلا للسياسات الاقتصادية ” الليبرالية الجديدة ” التي هيمنت على اقتصادات معظم دول العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، وكانت سببا مباشرا لتعميق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وأدت الى انفجار الأزمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها النظام الراسمالي حاليا. لقد افشلت دول اميركا الجنوبية بزعامة تشافيز اتفاقية إقامة منطقة التجارة الحرة لدول القارة الأميركية، الصادرة عن مؤتمر قمة كيبك في كندا في يناير 2001، حيث اعتبرها تشافيز اتفاقية غير متكافئة تسهم في تكريس الهيمنة الأميركية على اقتصادات دول القارة.
حاز هوغو تشافيز على شعبية في عدد غير قليل من دول العالم تفوق شعبية حكامها، فقد وقف الى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال الصهيوني وطرد سفير “اسرائيل” في بلاده أثناء العدوان الصهيوني على قطاع غزة ، كما وقف الى جانب المقاومة اللبنانية في نضالها ضد المحتلين الصهاينة، وكان له موقف مؤيد وداعم للشعب العراقي ضد الاحتلال الامريكي .

عكس الآراء والأفكار السياسية والفلسفية والثقافية والأدبية والجمالية، تناقضات المجتمع الطبقي في الدولة. منها ما يسعى للدفاع عن المستغلين، وابقاء القديم على قدمه، ومنها ما يسعى الى إحداث التغيير والتجديد. والدفاع عن المضطهدين والمقهورين. فالعلاقة جدلية بين البناء التحتي والبناء الفوقي، فالقوانين والأنظمة في الدولة الرأسمالية تخدم مصالح الطبقة السائدة في المجتمع، التي تسعى لتسخير وتجنيد المؤسسات الإعلامية والثقافية للدفاع عن مصالحها، ويجرى توريط بعض رجال الدين بهذه المهمة، وفي العصور الوسطى استخدمت الكنيسة دفاعا عن سلطة الاقطاع. فالبناء الفوقي كما هو معروف نتاج للبناء التحتي، “البنى الاقتصادية”. وكما تولد الطبقة الجديدة في احشاء التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية القديمة، تولد الأفكار والآراء التي تتبنى مصالح المستضعفين في الدولة.

أثار قرار الحكومة ” المستقيلة ” برفع أسعار المشتقات النفطية حالة استياء واسعة في المجتمع الأردني، رغم طلب 96 نائبا بالتراجع عن القرار، الا أن الحكومة ماضية بسياستها في تحميل المواطنين أعباء الأزمة المالية الناجمة عن سوء ادارة الحكومات المتعاقبة، وحاولت أوساط نافذة افشال جلسة مجلس النواب الخاصة في بحث رفع الأسعار، بتهريب النصاب كما أعلن بعض النواب صراحة، وذلك خشية احراج الحكومة والنواب الذين يطالبون بترشيح د. عبدالله النسور لرئاسة الحكومة، في الوقت الذي يواصل سياسة رفع الأسعار وافقار المواطنين دون البحث عن حلول جذرية في معالجة الأزمة المالية التي تواجه البلاد، بعيدا عن جيوب الفقراء، ومع ذلك نجح فريق الحكومة بتفجير الجلسة وبأسلوب مخجل .. شوهد على شاشات المحطات المحلية والعالمية ما يعكس صورة سيئة عن عمل مجلس النواب في أولى جلساته.
ورغم الميل العام نحو انخفاض أسعار النفط عالميا، حيث واصلت الأسعار انخفاضها منذ حوالي ثلاثة أسابيع ووصل سعر برميل النفط حوالي 90 دولار، الا أن الحكومة المستقيلة… “حكومة تسيير الأعمال” تواصل سياساتها الانكماشية بتحميل المواطنين أعباء الأزمة المالية، وتعرض الأمن الاجتماعي الى أخطار حقيقية، خاصة وأنها تتأهب لرفع أسعار الماء والكهرباء، مع تلميحات برفع أسعار الخبز. وقد حاول وزير الطاقة في لقائه مع “تلفزيون رؤية” توضيح موقف الحكومة من رفع الأسعار. لكن أبسط ما يمكن وصف اللقاء بأنه غير موفق، ففي سياق رده على مداخلة الزميل د. خالد الوزني، حاول التشكيك بقرار الحكومة حول تعويم الأسعار الصادر عام 2008 حين قال ” السعر كان لا يعكس تماما ..” ثم يعلن عن عدم وجود ” صندوق تحوط ” ..!
أما الاستشهاد بنسبة الضرائب التي تدفع في السويد .. فهي الأكثر غرابة، فالسويد ومعظم الدول الأوروبية تفرض ضرائب تصاعدية على الدخل والأرباح التي تتراوح نسبتها ما بين 40-62% أي سياسة ” اعادة توزيع الدخل” لتوفير التعليم والتأمين الصحي والخدمات العامة لدافعي الضرائب. بالمقابل ألغت الحكومة الأردنية ضريبة الدخل التصاعدية عام 1996 وخفضت سقف الضريبة على القطاع المالي والمصرفي من 55% الى 30%، وحملت المواطنين عامة ضريبة مبيعات وضريبة خاصة ..! ثم يسهب الوزير بشرح أنواع الضرائب وقوانينها، التي تفرضها الحكومة على المحروقات. ويتحدث الوزير عن أهمية الدعم النقدي..! الذي التهمته معدلات التضخم التي عمقت الفجوة بين الأجور والأسعار.
كما لا بد من التنويه أن معظم الضرائب المفروضة على المواطنين غير دستورية، كونها مخالفة للمادة 111 من الدستور الأردني التي تنص على أن تكون الضريبة تصاعدية، وتراعي قدرة المكلف على الدفع. اضافة الى ذلك أن الضريبة الرئيسية ” الضريبة الخاصة ” 20% صدرت بقانون مؤقت وتسللت الى جيوب المواطنين من دون علمهم، أما ضريبة المبيعات ونسبتها 16% فقد جاءت بقرار حكومي بشمول بعض المنتجات النفطية في ضريبة المبيعات وهو قرار غير دستوري أيضا. اضافة الى رسوم البلديات والطوابع والتي تصل مجموعها الى حوالي 48%.
رغم نفي الوزير الا أن الحكومة أعلنت عن وجود صندوق التحوط بسبب انخفاض النفط عالميا من دون أن تترك آثارا على الأسعار المحلية، وقد تبخر صندوق التحوط ولم نعد نسمع به..! ليس هذا فحسب بل ينفي معالي الوزير وجوده..! ، كما فوجىء المواطن الأردني بوجود ضريبة على المحروقات في حزيران عام 2010 عندما قررت الحكومة زيادة نسبتها بعد انفضح أمرها بسبب عدم انخفاض أسعار المحروقات محليا مقارنة مع الأسعار العالمية. فقد صدر بيان يوضح نسبة زيادة الضريبة على البنزين (أوكتان 95 من 6% الى 24% وبنزين أوكتان 90 من 6% الى 18% ) وما زال قانون الضريبة الخاصة قانونا مؤقتا لم يجر اقراره لغاية الآن رغم مرور عدة سنوات على صدوره..! أما حقيقة أسعار المحروقات وتحريرها فقد أعلنت الحكومة تحرير أسعار المشتقات النفطية يوم 8 شباط 2008 وأصبح لتر البنزين أوكتان 95 (660) فلسا في حينه وبنزين أوكتان 90 (575) فلسا والديزل (550) فلسا، علما أن سعر برميل النفط كان حوالي 100 دولار. لنترك للقارئ تقدير نسبة الأرباح التي تجنيها الحكومة من أسعار المحروقات.
أما قضية الأزمة المالية التي تواجه الحكومة فهي تحتاج ارادة سياسية لاتخاذ اجراءات اقتصادية جذرية، بمكافحة الفساد، وضبط الانفاق، واعادة هيكلة الموازنة بتوجيه الانفاق العام وفق أولويات حاجة المواطنين، في توفير فرص العمل والتعليم والصحة ، والتوجه نحو الاستثمار المولد للدخل، والتخلي عن النفقات الاستهلاكية.
 

صمت هاتفك ولم أعد أسمع صوتك المجلجل.. لم أعد أسمع عبارتك الشهيرة: أين أنت يا رجل.. نعم تأخرت عليك.. اعذرني يا رفيقي.. لم احتمل، أكاد ألا أصدق أنك رحلت بعد مسيرة مليئة بالعطاء.. ذات يوم ومنذ أربعة عقود .. جاءني صديق عزيز، متلهف للتعبير عن مشاعره تجاه شاب مثقف.. مهذب.. دمث الأخلاق، مستدركا.. هل تعرفه.. اسمه مؤيد، قلت لا لم أتشرف بمعرفته بعد، رغم أنني متشوق لرؤيته فقد سبق وحدثني عنه أحد الأصدقاء، الا أن خصوصية العمل السري قد لا تسمح لي بذلك، فهو في القطاع الطلابي للحزب الشيوعي، وأعتقد أنه من طلاب الجامعة الأردنية .. صحيح ولكن لن أفوت عليك هذه الفرصة، سأتولى هذه المهمة اليوم، وسأفسد عليك انضباطك الحزبي.. ذهبت بمعية رفيقي المرحوم المناضل محمد الشقارين، كان ذلك في أوائل سبعينات القرن الماضي .. كانت تربطني علاقة حميمة بالشقارين، أمضينا أهم مرحلة في حياتنا بالنضال ضد الاحتلال الصهيوني تحت مظلة قوات الانصار .. حملت تلك الأيام ذكريات شخصية وانسانية ووطنية .. نتسامر ونتناول أطراف الحديث حول مختلف القضايا، بدءا من حياة الناس البسطاء في القرية والمدينة مرورا بالقضايا الثقافية والفكرية، وانتهاء بردود الافعال الساخنة لموافقة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على مبادرة روجرز.. أو المشاركة في فك اشتباك بين مؤيد ومعارض من فصائل المقاومة في منطقة لا تبعد بضعة كيلومترات عن مواقع العدو الصهيوني.. وتحت قصف المدافع الاسرائيلية أحيانا. كان لقاءا حميميا رغم أنه الأول، توطدت العلاقات لاحقا مع صديق العمر ورفيقي مؤيد، عملنا سويا في خدمة الطبقة العاملة والحركة النقابية، وتناوبنا على رئاسة جلسات المؤتمر التأسيسي للحزب الديمقراطي الاشتراكي المنعقد في تشرين الثاني 1992، وأوكل لنا صياغة برنامج الحزب وواصلنا العمل في صفوف الحركة الوطنية من مختلف المواقع المتاحة. تولى مؤيد رئاسة تحرير جريدة الحزب ” الفجر الجديد” وسامي الزبيدي وفهد الخيطان أعضاء في هيئة التحرير، عملت على ارساء مبادىء الحرية والديمقراطية، وهي من أولى التجارب في مجال التعددية السياسية في اطار الحزب الواحد. شاءت الأقدار أن يغادرنا سامي ومؤيد في أسبوع واحد وبالطريقة نفسها، خلال أسبوع اختطف الموت صديقين عزيزين. كان سامي يكتب تحت اسم الهندي الأحمر، وكان خياله خصبا.. متجاوزا الخطوط التي رسمها الحزبيون بعباراتها وديباجاتها ومنطوقها الثوري المركزي، كانت تجربة جديدة حملت اجتهادات أصاب بعضها واخطأ بعضها الآخر.
توطدت علاقاتنا الى أن أصبحت من أسمى العلاقات الانسانية والنضالية، ليس على الصعيد الشخصي فحسب، بل والعائلي ايضا، فقد أسهمت مصاهرة الشقارين لمؤيد، بتوطيد العلاقات وتعميقها فيما بيننا. اتقن مؤيد فنون النضال مستفيدا من كفاءته ومواهبه المتنوعة.. مؤيد الكاتب والشاعر والنقابي والسياسي وقبل كل ذلك الانسان، فقد انخرط في صفوف النضال مبكرا من خلال عضويته في اتحاد الطلبة وانتمائه للحزب الشيوعي، في أوائل سبعينات القرن الماضي، وكان له دور تعبوي مؤثر في صفوف الحركة النقابية من خلال نشاطه في نقابة المصارف، حين كان موظفا في القطاع المصرفي، وتبوأ موقعا قياديا في نقابة العاملين في المصارف والتأمين والمحاسبة، وأصبح رئيسا للنقابة. كان موضع احترام وتقدير، لكل من تعرف عليه، كان يتمتع بصفات مميزة. متواضع .. ودود .. شهم .. مرهف الاحساس ومتدفق الحماس دفاعا عن القضايا العادلة.. متميزا باسلوبة .. اللعنة صمت هاتفك .. ولم أعد أسمع صوتك.
لم يجلس مؤيد المثقف والشاعر والكاتب والروائي في برج عاجي.. لم تنحصر علاقاته بالنخب رغم ابداعه وعطاءه النوعي، فهو مع العمال عاملا ونقابيا، ومثقفا ثوريا، غادرنا مؤيد مبكرا وهو في ذروة عطاءه، كان نائبا لرئيس رابطة الكتاب الذي واكب نشاطاتها منذ تأسيسها. كان حراكيا ومناضلا مع ابناء شعبه من أجل الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية، ومن أجل تحقيق اصلاح شامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، رافضا تحميل الشعب اعباء الازمة المالية والاقتصادية، كان مؤمنا حتى العظم بالدفاع عن قضايا الطبقة العاملة، والفقراء عامة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
كان مؤيد ملتصقا بقضايا شعبه وأمته، ناضل في صفوف الحركة الوطنية من أجل أردن وطني ديمقراطي،مؤمنا بحتمية الانتصار وتحرير الأرض والانسان، وطرد الغزاة الصهاينة، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس، وحق العودة. والتحرر من التخلف والتبعية، والنهوض بالامة تحت رايات الحرية والديمقراطية والوحدة. كان في وداع مؤيد جمهور واسع من مختلف ألوان الطيف السياسي. المجد والخلود لفقيدنا الغالي، وخالص العزاء لأسرتك واصدقائك.