رغم التحديات الكبيرة التي واجهت البلدان العربية الا ان بعضها حقق نجاحات ملموسة في مرحلة النهوض الوطني, سواء كان ذلك في مجال الاستقلال السياسي او التطور الاقتصادي والاجتماعي, فلا يمكن اغفال المشاريع الاستراتيجة التي نفذت بمبادرة الدولة على غرار ما جرى في مصر من بناء السد العالي واقامة مصانع حلوان وغيرها من المشاريع المختلفة, رغم الصعوبات التي اعترضتها, وعلى اهمية هذه النجاحات الا انها غير كافية لبناء دولة عصرية, ففشلت في تحقيق الديمقراطية ومواجهة التحديات الكبرى في بناء القاعدة المادية الاقتصادية المبنية على انتاج وسائل الانتاج ووسائل النقل, وامتلاك تكنولوجيا المعلومات واستثمارها في مختلف الفروع الانتاجية واستغلال الثروات الضخمة, وتطوير القطاع الزراعي وادخال التكنولوجيا لهذا القطاع, وانتاج كافة السلع الاستهلاكية وتوفير الاحتياجات الضرورية للمجتمع, وهذا لا يعني بحال من الاحوال الانغلاق على العالم, لكن الانفتاح يحتاج الى اقتصاد قوي ومتين قادر على النمو المضطرد, لكي يستطيع الصمود والتفاعل في ظل التكتلات الاقتصادية التي تتحكم في العالم, وكان لبعض الاجراءات الاقتصادية غير الناضجة والطفولية احيانا والتي جرى اسقاطها من دون اي اعتبار لخصائص المجتمعات المحلية في البلدان التي عرفت بما يسمى »بالتطور اللارأسمالي«, وغياب الديمقراطية وهيمنة الاجهزة البيروقراطية اكبر الاثر في قتل المبادرات واجهاض المشروع التنموي, وهروب رأس المال الوطني.اما القضية المركزية التي عجزت انظمة التحرر الوطنية في البلدان العربية من تحقيقها رغم انها كانت المبرر الاساسي لصعودها الى سدة الحكم, التصدي للمشروع الصهيوني التوسعي, وتحقيق المشروع الحضاري القومي, فعلى الرغم من تبني القيادات السياسية لهذا المشروع الحضاري الا انها عجزت عن تحقيق خطوات ملموسة بهذا الاتجاه, لعدم اشراك الجماهير الشعبية, وبقي المشروع وسيلة اعلامية لدى انظمة الحكم, وفي وجدان الجماهير العربية, ولم يترجم الى ارض الواقع, مما اضعف دور هذه البلدان في مواجهة المشروع الصهيوني, ليس هذا فسحب بل نجحت اسرائيل بتحالفها مع الامبريالية الامريكية من توجيه ضربات لهذه الانظمة ادت في نهاية المطاف الى انهيار معظمها, وقد شكلت هذه التراجعات مقدمة للبدء بالحلول المنفردة مع اسرائيل, كما شكلت اتفاقية كامب ديفيد ضربة قاتلة للعمل العربي المشترك, وجاءت بعد ذلك اتفاقيات اوسلو ووادي عربة لتجهز على الجبهة المعادية للاحتلال الاسرائيلي وفتحت الباب على مصراعيه لانهاء المقاطعة مع اسرائيل واتخذت هذه الاتفاقيات مبررا لدى بعض الدول العربية والدول الصديقة للتطبيع واقامة العلاقات السياسية مع اسرائيل, وطرحت المشاريع الشرق اوسطية التي تهدف الى دمج اسرائيل في المنطقة واعطائها دورا محوريا سياسيا واقتصاديا, وتمكين الولايات المتحدة الامريكية من وضع يدها على الثروات العربية كاملة والسيطرة على منابع النفط, وتذويب معالم الحضارة والثقافة العربية بهدف حرمان الشعوب العربية من اقامة مشروع حضاري تقدمي, وكثر الحديث عن هذه المشاريع في الآونة الاخيرة, وكان اخرها ما طرحته كوندوليزا عن الشرق الاوسط الجديد, بهدف تقطيع اوصال الوطن العربي والقضاء المبرم على اي نهوض عربي وحدوي, وتمكين اسرائيل وامريكا من الهيمنة سياسيا واقتصاديا وعسكريا على المنطقة.اذا كانت السياسة الاقتصادية التي اتبعتها الدول التي اصطلح على تسميتها »التطور اللارأسمالي« لم تستطع انجاز مشروع تنموي يشكل قاعدة مادية لدولة عصرية, فإن الخضوع لنهج الليبرالية الجديدة واملاءات الصندوق والبنك الدوليين لم يحققا نموا اقتصاديا فقط بل سببا كوارث اقتصادية واجتماعية لهذه البلدان وشعوبها, فقد دخلت معظم البلدان النامية في ثمانينات القرن الماضي في ازمة اقتصادية حادة ادت الى تراجع النمو الاقتصادي, وزيادة نسبة البطالة, وبرزت ازمة المديونية بشكل صارخ في مختلف دول العالم الثالث كانت في مقدمتها البرازيل والمسكيك, اما في الوطن العربي فقد احتلت مصر الدولة الخامسة في العالم من حيث المديونية, وشكلت هذه الازمة انتكاسة للطموحات والآمال المعقودة من قبل مروجي سياسة الانفتاح الاقتصادي لتحقيق انتعاش وتنمية اقتصادية, ونجح الرأسمال العالمي من خلال الصندوق والبنك الدوليين, باستغلال الظروف الاقتصادية البائسة للبلدان النامية, لفرض املاءاته عليها, واخضاعها لبرامج التثبيت والتكيف الهيكلي, ما يسمى ببرنامج الاصلاح الاقتصادي, وانتقل مركز القرار الى الصندوق والبنك الدوليين ومانحي القروض والمساعدات, وبدأت اعادة جدولة الديون, وفرضت سياسة تقشفية, وتم الغاء كافة اشكال الدعم على المواد الاساسية والخدمات الضرورية, وتحرير التجارة وازالة كافة الحواجز الجمركية لتسهيل انسياب السلع, والغاء الدعم عن كافة المنتجات الصناعية والزراعية, وتحرير الاسعار, وفرض الضرائب غير المباشرة, واتباع سياسة الخصخصة, بتخلي الدولة عن كافة مؤسساتها او مساهماتها في مختلف القطاعات لصالح القطاع الخاص واعطائه الدور القيادي في ادارة الاقتصاد والدولة, هذه السياسات جرّت الويلات على البلدان النامية وافقرت شعوبها, وكانت المقدمة الاساسية لهيمنة الرأسمال العالمي على اقتصاد هذه البلدان ومن ثم فرض الميمنة السياسية الشاملة عليها.وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الامم المتحدة لتحقيق التنمية البشرية والتصدي للفقر وسوء التغذية ووضع برنامج تنموي في مجال الصحة والتعليم الا ان هذه البرامج لا تلقى الاهتمام الكافي من قبل الدول الكبرى, وتبقى هذه المشاريع حبرا على ورق, فقد جددت حكومات العالم تعهدها مع بداية الالفية الجديدة باعلانها الصادر عن الامم المتحدة عام 2000 نتطلع لتحقيق نمط جديد من الاندماج العالمي المبني على الانصاف والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الانسان, وتخفيض نسب الفقر المدقع عام .2015وفي هذا الصدد يشير تقرير التنمية البشرية للعام ,2005 الى الجدل الذي اثارته العولمة والذي اتسم بالحدة في بعض الاحيان حول اتجاهات توزيع الدخل في العالم, وعلاقتها بالفقر وما اذا كان الاندماج في الاسواق العالمية يؤدي الى تقارب او تباعد في الدخل بين البلدان الغنية والفقيرة, فمعظم البلدان الافقر في العالم فشلت في تخفيض الفقر على حد تعبير التقرير, بل انها تخلفت اكثر فأكثر عن البلدان الغنية, فيشير التقرير (لو توقف نمو بلدان الدخل المرتفع اليوم واستمرت بلدنا افريقيا جنوب الصحراء وامريكا اللاتينية على مسارات نموها الحالية, فتحتاج امريكا اللاتينية حتى عام 2177 وافريقيا حتى عام 2236 لتلتحق ببلدان الدخل المرتفع, والدلالة على ذلك عمق الفجوة في الدخل فإن اغنى (500) انسان في العالم يزيد دخلهم على 416 مليون نسمة في العالم. ان تكلفة انهاء الفقر المدقع لانتشال مليار نسمة الى ما فوق خط فقر الدولار الواحد في اليوم هي 300 مليار دولار ما يعادل 1.6% من دخل اغنى 10% من بين سكان العالم, اي لو فرضت ضريبة مقدارها 1.6% من دخل اغنى 10% من سكان العالم واستثمرت في معالجة قضايا الفقر لتم حل مشكلة الفقر المدقع لحوالي مليار انسان في العالم, لكن ما يجري عكس ذلك تماما, فبدلا من توفير المال والتضامن والتكافل الاجتماعي لمواجهة الفقر المدقع, تفرض الطبقة الاغنى في العالم (10%) نهجها وسياستها على اقتصاديات البلدان الفقيرة لكي تزيد افقارها, وذلك من خلال نفوذها وهيمنتها على المؤسسات الدولية من الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية, وما رافق هذه السياسات الاقتصادية من زيادة بؤر التوتر والنزاعات الاقليمية التي ادت الى زيادة النفقات العسكرية فقد اوضحت منظمة (اوكسفام) البريطانية ان النفقات العسكرية في العالم للعام الحالي 2006 ستتخطى حدها الاقصى الذي سجل ايام الحرب الباردة وتتوقع التقديرات ان تزيد النفقات العسكرية لهذا العام 1059 مليار دولار ويفوق هذا المبلغ 15 ضعفا حجم المساعدات الدولية, وادى هذا الارتفاع في الموازنات العسكرية الى ازدهار صناعات الاسلحة فزادت مبيعات الشركات الرئيسية في هذا المجال بنسبة 60% خلال اربع سنوات وكانت الولايات المتحدة ودول الشرق الاوسط هي المسؤولة بشكل رئيسي عن هذه الزيادة في النفقات العسكرية وحسب منظمة الامم المتحدة للاغذية والزراعة (فاو) ان الحرب هي السبب الاول لموجات المجاعة في العالم.اما التوجهات الانسانية والاجتماعية للامم المتحدة فقد ذهبت ادراج الرياح وبقيت حبرا على ورق, ويتوقع تقرير التنمية البشرية استنادا الى المعطيات واستقراءات افاق المستقبل فشل اهداف الالفية في تحقيق تقدم في وفيات الطفولة والالتحاق في المدارس والانصاف الجنسوي في التعليم والحصول على الماء الصالح للشرب وتوفير الصرف الصحي.ان 65 بلدا يبلغ مجموع سكانها 1.2 مليار نسمة ستفشل في تحقيق هدف واحد على الاقل من اهداف التنمية البشرية حتى ما بعد عام .2040 وتشير التقديرات الى ان نحو 800 مليون شخص سيعيشون بأقل من دولار واحد وان 1700 مليون شخص اخرون سيعيشون باقل من دولارين في اليوم في عام .2015 وان 670 مليون انسان يعانون سوء التغذية في العالم عام .2015 والاستثمارات اللازمة لتزويد 2600 مليون انسان مياه نظيفة 7 مليارات دولار سنويا خلال العقد المقبل وهي اقل مما ينفقه الاوروبيون على العطور. علما ان هذا الاستثمار من شأنه انقاذ حياة 4 الاف انسان يوميا.