اصبحت الدول النامية لاعبا رئيسا في الاقتصاد العالمي، وفي مقدمة هذه البلدان مجموعة دول بريكس التي تضم كلاً من الصين وروسيا البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، ويعيش في الدول الخمس حوالي 41% من سكان العالم، وتشغل 25% من مساحة الارض، ويقدر حجم اقتصادها بحوالي 27% من الناتج الإجمالي العالمي، ويبلغ مجموع احتياطي النقد الأجنبي لدول المنظمة 4 تريليون دولار. ومن ابرزها الصين التي تحتل ثاني اكبر اقتصاد في العالم، وقد انهت تفرد اميركا على العالم، ووصف الرئيس الصيني دول “بريكس” بأنها “المدافعة عن مصالح الدول النامية وأنها قوة من أجل السلام العالمي .
وقد لعبت اقتصادات الدول الصاعدة دور رياديا في قيادة الاقتصاد العالمي، و حافظت على مستويات مرتفعة من النمو الاقتصادي، قبل ان يتجه اقتصاد هذه البلدان نحو التباطؤ، مما ترك اثارا سلبية على الاقتصاد العالمي، فقد سجل الاقتصادي الصيني خلال الربع الثاني للعام الحالي نموا نسبته 7.5 % على أساس سنوي مقارنة مع 7.7 % في الربع الأول. فقد تراجعت الصادرات الصينية خلال النصف الاول من العام الحالي بنسبة 3.1 % خلال شهر يونيو مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، وهو ما يظهر تراجعا ملموسا في الطلب العالمي على البضائع الصينية.
ويعزى ذلك الى سببين الاول تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي حيث يواجه الاقتصاد الصيني ضغوطاً متزايدة مع تباطؤ اقتصاد الولايات المتحدة وانكماش اقتصاد الاتحاد الاوروبي وضعف الطلب الداخلي. والثاني ارتفاع تكلفة الصادرات، بسبب ارتفاع سعر صرف اليوان الصيني بنسبة 5.6% وارتفاع تكلفة رواتب الايدي العاملة وغيرها من ارتفاع الكلف. لم تكن هذه النتيجة مفاجئة بسبب العلاقة المتبادلة بين اقتصادات العالم في ظل العولمة والانفتاح الاقتصادي، فاذا كان النمو المرتفع للاقتصاد الصيني سببا في تعثر الاقتصاد الاميركي في الخروج من ازمته، فان الركود الاقتصادي الاميركي اصبح من اهم اسباب تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني.
لقد سخرت المراكز الرأسمالية المنظمات الدولية مثل “منظمة التجارة العالمية” لفرض شروط التبعية على البلدان النامية، ومورست الضغوط عليها للتكيف مع شروط المنظمة الدولية، بفتح اسواقها امام المنتجات العالمية، في ظل علاقات غير متكافئة بهدف توسيع السوق الراسمالي، وازالة الحواجز الجمركية، وتمكين الاحتكارات الراسمالية من تصريف منتجاتها في مختلف ارجاء المعمورة، مما سبب ضررا فادحا لاقتصادات الدول النامية، حيث هُمشت الصناعات الوطنية في معظم البلدان النامية. بالمقابل فتحت افاق واسعة امام اقتصادات صاعدة لدول نامية مثل الصين مكنتها من منافسة الدول المتقدمة، فاستحوذت الصين وعدد من دول بريكس على حصص اعلى في السوق العالمي مستفيدة من العولمة الرأسمالية، كما تمكنت من استقطاب رؤوس اموال الشركات المتعددة الجنسيات للاستثمار في الصين بفضل النمو الاقتصادي المرتفع، والاداء الاقتصادي المتفوق، والقدرة التنافسية العالية للمنتجات الصينية، واحدث الانفتاح الاقتصادي الذي فرضته المراكز الرأسمالية نتائج عكسية على البلدان المتقدمة فاصبحت اسواقها مستهدفة من البلدان الصاعدة. واسهم ذلك في تراجع معدلات النمو الاقتصادي في بلدانها.
ومن المفارقات الغريبة ان الدول المنافسة للصين تعبر الان عن مخاوفها من أن يشهد الاقتصاد الصيني تباطؤا أكبر، وذلك خشية من الاثار السلبية على الاقتصاد العالمي، فالاقتصاد الصيني أصبح يشكل قوة اساسية للحفاظ على نمو الاقتصاد العالمي. علما ان نمو الاقتصاد الصيني يعتبر مرتفعا وفقا للمعايير الدولية. حيث تشير احدث تقرير البنك العالمي ” افاق الاقتصاد العالمي ” ان توقعات النمو للاقتصاد العالمي تتراجع الى 2.2% وتوقعات نمو اقتصادات الدول المتقدمة من الى 1.2% . واميركا بنسبة 1.7% ودول منطقة اليورو انكمش اقتصادها الى 0.6% خلال العام الحالي اما الاقتصاد الالماني الذي يعتبر من اهم اقتصادات الدول الاوروبية من المتوقع ان ينمو بمعدل 0.9% من اجمالي الناتج المحلي الاجمالي. فالهامش واسع جدا بين نمو الاقتصاد الصيني ، المرشح لاحتلال المركز الاول في الاقتصاد العالمي وبين نمو اقتصادات الدول المتقدمة.
ومن ابرز التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، انسداد الافق امام نمو اقتصادات البلدان المتقدمة، ووقوع الدول الفقيرة ضحية النظام الرأسمالي، والميل العام نحو تراجع اقتصادات الدول الصاعدة، وغياب نموذج اقتصادي متوازن يحقق نموا اقتصاديا حقيقيا، ويؤمن فرص عمل لجيش العاطلين عن العمل، ويضمن اجور تتناسب مع مستلزمات نفقات الاسرى، وتكافؤ الفرص، ويحقيق العدالة الاجتماعية، ويضمن استقرارا سياسيا واجتماعيا، بعد ما فشلت النماذج الاقتصادية التي استخدمت في مواجهة الازمة خلال السنوات الخمس الماضية، التي اعتمدت على الانفاق الحكومي الممول بالقروض لتحفيز النشاط الاقتصادي، الامر الذي فاقم المديونية لهذه البلدان، وحمل المواطنين اعباء جديدة تمثلت بزيادة الضرائب، وتخفيض الاجور، وخفض الانفاق على الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية، وعرض بعضها للافلاس

ليس من قبيل الصدفة أن شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية كانت الجامع المشترك الأعظم بين الثورات الشعبية في البلدان العربية، رغم أن لكل دولة خصوصيتها اقتصاديا واجتماعيا؛ إلا أن السمة العامة لهذه البلدان خضوعها للتبعية الأجنبية. فالاستقلال السياسي الذي انتزعته الشعوب العربية من الاستعمار الكولونيالي بعد تقديم مواكب الشهداء من أعز وأنبل وأشرف أبناء الأمة وفاء واخلاصا للوطن من أجل الحرية والاستقلال، تم استلابه من قبل الاستعمار الجديد المتمثل بالاستعمار الاقتصادي، بتمكين المراكز الرأسمالية من فرض شروط التبعية على البلدان النامية عامة وفي عدادها البلدان العربية، بعد اغراقها بالمديونية، واخضاعها لاملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، والاستيلاء على مقدرات هذه البلدان، ونشر الثقافة الاستهلاكية؛ في وقت أفلتت بعض الدول النامية (الصين الهند البرازيل..الخ) من فخ المديونية وشروط التبعية بفضل امتلاكها الارادة السياسية في التحرر والانعتاق، وأصبحت نموذجا يحذى حذوه في العالم.
جاءت الثورات العربية لانجاز برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية، ومن أولى مهامها تطهير البلاد من الفساد والاستبداد، واقامة دولة ديمقراطية يسودها العدل والمساواة، والتخلص من هيمنة البرجوازية الطفيلية ووكلاء الشركات الأجنبية ” الكمبرادور” على الاقتصاد الوطني، واعادة الثروات العربية المنهوبة، واستثمار الموارد العربية في مشروع تنموي اقتصادي اجتماعي، ومعالجة قضايا الفقر والبطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية. فمن حق الشعب صانع الثورة، أن يطلب من الحكومة المنتخبة تقديم جردة حساب، لمعرفة الانجازات التي حققتها. رب قائل يقول إن عاما أو اكثر غير كاف لحصد المكاسب.. صحيح ولكن، شريطة وجود برنامج عمل واضح يحدد مسار الحكومة، وآفاق التطور الاقتصادي والاجتماعي، وهذا لم يحدث في كل من مصر وتونس وليبيا التي شهدت سقوط أنظمة ديكتاتورية. لا بل شهدت هذه البلدان تراجعا خطيرا في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، انعكست مظاهرها باتساع مساحات الفقر وارتفاع معدلات البطالة، ما دفع ملايين المصريين في العودة الى الشارع لتصحيح مسار الثورة.
تناولت الأسبوع الماضي بعض مظاهر تراجع الوضع الاقتصادي في مصر، أواصل في تغطية بعض مظاهر التراجع الاقتصادي والاجتماعي، التي كانت سببا في إحداث تغيير جوهري من قبل الجماهير الشعبية تجاه الإخوان المسلمين. يقول الخبير الاقتصادي المصري د. احمد السيد النجار رئيس مركز الدراسات الاقتصادية في جريدة “الأهرام”: لم يطرأ أي تحسن في الانفاق العام على قطاع الصحة المتدني أصلا .. فقد استلم د. مرسي الحكم والإنفاق على الصحة يقدر بنحو 5% من اجمالي النفقات العامة، أي أقل من ثلث ما تطلبه منظمة الصحة العالمية وهي 15% للحفاظ على صحة الفقراء ومحدودي الدخل والصحة العامة للمجتمع. فقد حافظ مشروع موازنة 2013/ 2014 على المعدل نفسه حيث خصص حوالي 4,7% من الإنفاق العام للصحة..! وفي السياسة الضريبة التي تشكل أهم أدوات اعادة توزيع الدخل، وتحقيق العدالة الاجتماعية، فقد اقتصر الاعفاء الضريبي على أول ألف جنيه في الشهر. علما أن الحركة العمالية المصرية تطالب برفع الحد الأدنى للأجر الى 1500 جنيه شهريا، أما الشريحة العليا للضرائب نسبتها 25% لمن يبلغ دخله أكثر من 250 ألف جنيه. بينما تبلغ في الولايات المتحدة 43 %، وفي فرنسا وبريطانيا وإيطاليا 40% .
أما تونس فهي ليست أفضل حالا، فالاقتصاد التونسي يعاني من تراجع ملموس في احتياط العملات الأجنبية التي انخفضت من 13 مليار دينار إلى 10 مليارات دينار تونسي. وارتفعت نسبة الفقر والبطالة . وتقول وزارة الشؤون الاجتماعية في تقرير لها، إن نسبة الفقر بلغت 24.7? وفقا للمعايير الدولية التي تحدد حد الفقر بدولارين للفرد الواحد يوميا. وتقدر وزارة الشؤون عدد العاطلين من العمل بـ700 الف شخص ، 69% منهم تقل أعمارهم عن 30 عاما.. ويقول وزير الشؤون الاجتماعية التونسي: «الفقر والبطالة وعلاقات الإنتاج تشكل أبرز المواضيع التي تتصدر مطالب واحتجاجات المواطنين في هذه الفترة».. ويُتوقع تواصل الاحتجاجات مع عجز الحكومة الوفاء بوعودها للمواطنين.
صحيح أن البلدان العربية بحاجة إلى مزيد من الوقت لتوفير الاستقرار السياسي والاقتصادي، شريطة التخلي عن السياسات الاقتصادية الليبرالية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وعدم انخراط المؤسسة العسكرية في العمل السياسي، وكان من الأفضل أن تواصل الحركة الشعبية دورها في تصويب مسار الثورة من دون تدخل المؤسسة العسكرية. إلا في حالة تعرض السلم الأهلي للخطر، مع تأكيد صيانة حق المواطنين في التعبير عن ارائهم بالطرق السلمية، ورفض أي شكل من اشكال الاعتداء على حقوق الانسان ، وعزل الأصوات الداعية للاقتتال الأهلي .

وقف العالم مبهورا أمام الجماهير الشعبية المتدفقة في الساحات والميادين، في المدن والقرى المصرية، ملايين المصريين يجوبون الشوارع بمسيرات شعبية لتصويب مسار الثورة المصرية ملبين الدعوة لإسقاط مرسي، واجراء انتخابات مبكرة، حضور جماهيري غير مسبوق، لم تشهده دولة في العالم، دفاعا عن مبادئ ثورة 25 يناير، ” الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والدولة المدنية ” كان واضحا منذ اللحظات الأولى لاندلاع ثورة يناير أن القوى المحركة للثورة المصرية الشباب والعمال، الذين يعانون من الفقر والبطالة وتردي الأوضاع المعيشية، بسبب السياسات الاقتصادية التي فرضها نظام الفساد والاستبداد، منذ عدة عقود، وكان واضحا أن القضية الاقتصادية والاجتماعية تحتل المقام الأول، وأن مصر الثورة تحتاج إلى سياسة اقتصادية جديدة، فالسياسة الاقتصادية التي سادت منذ عصر الانفتاح الاقتصادي التي أفقرت الشعب المصري انتهى عصرها، وكان على النظام أن يعي حقيقة هذه القضية الجوهرية، الا أن مصالحه الطبقية حالت دون ذلك.