منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي ويجري البحث عن إجابة على سؤال جوهري، حول أسباب انهيار التجربة السوفيتية، فبعد أكثر من سبعة عقود على انتصار ثورة أكتوبر وقيام الدولة السوفيتية، والاعتقاد أن التجربة الاشتراكية قد انتصرت في وجه الظلم والاستغلال والطغيان، جاء الانهيار المدوي الذي كــــان أثره كالصاعقة ليس فقط على شعوب الاتحاد السوفيتي فحسب بل على شعوب العالم اجمع وبشكل خــــاص على الــــدول النامية وفي عدادها الدول العربية، وهذا ليس تقيما فكريا بل سياسيا، فمن لم يقدر أهمية وجود الاتحاد السوفيتي قبل انهياره، اعتقد انه الآن يستطيع إدراك ذلك، وما مدى الضرر الذي لحق في مختلف شعوب العالم من تفرد الولايات المتحدة الأمريكية وهيمنة الليبرالية المتوحشة على العالم والتحكم بمصيره، وما مدى أهمية وجود دولة عظمى تحمل مبادئ وأفكار سامية وتؤمن بحق تقرير المصير لشعوب العالم، وهذا لم يقلل من فداحة الأضرار الناجمة عن غياب الديمقراطية وغياب التعددية السياسية في الاتحاد السوفيتي، والتي أسهمت في انهياره. فإذا كان انتصار الثورة عام 1917 قد هزّ العالم على حد تعبير الكاتب الأمريكي جون ريد في كتابه الشهير عشرة أيام هزة العالم فالانهيار أيضا قد هزّ أركان العالم، وكان صدى وأثار ونتائج الحدث الثاني عكس تماما صدى وأثار ونتائج الحدث الأول على مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية في كافة أركان المعمورة، من هنا اختلفت الأجتهادات والآراء في الإجابة على السؤال الرئيسي حول أسباب الانهيار:- هل هذه الأسباب لها علاقة في نظرية ماركس حــــول نقد الرأسمالية والبحث عن سبل تجاوزها، أم في التجربة السوفيتية ذاتها، وإذا كان الجواب يتصل بالتجربة، هل يكمن السبب بفكرة قيام الثورة في روسيا، أم بالأسلوب الستالينيي البيروقراطي المركزي الذي طبق في الاتحاد السوفيتي، وهنا أود أن اطرح بعض الأضاءات والأفكار لأبرز قادة الفكر الاشتراكي في العالم حول هذا الموضوع.القراءات الأولى للتجربة الروسية في بداياتها خلصت ألى أنّ الثورة ضد “منطق رأسمال ” أي منطق ماركس حسب تعبير المفكر الإيطالي غرامشي، كونها جاءت في أكثر الدول الرأسمالية تخلفا، وان نظرية لينين بإمكانية قيام الثورة في روسيا باعتبارها اضعف حلقات الإمبريالية، حققت غرضها في استيلاء الطبقة العاملة على السلطة، وكان التطور الرأسمالي في روسيا بمراحله الأولى، والطبقة العاملة أقل خبرة وتجربة ولكنها الأكثر تنظيما من الناحية السياسية بفضل دور حزب البلاشفة.كانت الطبقة العاملة متواضعة من حيث الحجم، وكاد ينحصر وجودها بشكل رئيسي في مدينتي موسكو وسان بطرسبرغ أمام جماهير غفيرة من الفلاحين الذين اجتذبتهم الثورة في مواجهة الإقطاع وملاكي الأراضي، لا شك إن شعار تحالف العمال والفلاحين والجنود في ظروف الحرب الذي طرحه لينين شكل قوة محركـــة ومـــؤثرة وفاعلة من اجل انتصار الثورة، والوصول الى السلطة السياسية، إلا أن الحلم تبدد بعد ذلك بسبب العقبات الرهيبــــة التي واجهت الدولة الحديثة، مما اضطر القيادة السوفيتية بزعامة لينين من إجراء تعديلات على مسارها، وقد طرح لينين بوضوح في المؤتمر العاشر للحزب في عام 1921 بأنه” لا يمكن إنجاز الثورة الاشتراكية في بلد تتكون فيــه أغلبية السكان من منتجين زراعيين صغار ألا بجملة من التدابير الانتقالية الخاصة، التي لا حاجة إليها إطلاقا في البلدان الرأسمالية المتطورة. أن الحالة تختلف في روسيا حيث عمال الصناعة أقلية وحيث صغار المزارعين أغلبية” وكانت هذه التوجهات هي المقدمة لطرح السياسة الاقتصادية الجديدة” النيب ” في عام 1922 والتي انطلقت من إعادة النظر بالتوجهات المبكرة التي تبناها لينين في بداية الثورة، وخاصة ما يتعلق بالتـأمين والمصادرة وإلغاء الإنتاج البضاعي الصغير، وقدم رؤيته الجديدة التي انطلقت من حفز وتشجيع رأس المال الأجنبي والمحلي للإسهام في بناء اقتصاد الدولة الفتية كمرحة انتقالية لمحاولة إنجاز ما لم تنجزه البرجوازية الروسية قبل الثورة.اعترض بليخانوف وكاوتسكي على توجيه الثورة في روسيا نحو سلطة العمال منذ البداية منطلقين من ان بلد مثل روسيا يتشكل اقتصاده أساسا من الإنتاج البضاعي الصغير وأغلبية سكانه من الفلاحين لا يستطيع النهوض بمهام الثورة الاشتراكية، وحذرا من نشوء نظام استبدادي, وتنبأ كاوتسكي في مطلع الثلاثينات بتعذر استمرار التجربة.أدرك لينين لهذه الحقيقة وكان ينتظر الثورات العمالية في القارة الأوروبية وبشكل خاص في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا لقد زكى لينين هذا الاتجاه في كتاباته بمناسبة الذكرى الرابعة لثورة أكتوبر حيث قال في صريح العبارة ” كنا نفترض دون حساب كاف، بأننا سنتمكن بالأوامر الصريحة التي تصدرها الدولة البروليتارية من أن ننظم على الطريقة الشيوعية في بلد من صغار الفلاحين، إنتاج وتوزيع المنتجات من جانب الدولة إلا ان الحياة بينت خطأنا وتبين انه لا بد من سلسلة من الدرجات الوسيطة، رأسمالية الدولة، ففي بلد كهذه لا يمكن للثورة الاشتراكية إن تنتصر الا بشرطين:الأول:- تدعمها في الوقت المناسب الثورة الاشتراكية في بلد أو عدة بلدان متقدمة.الثاني:- التفاهم بين البروليتاريا التي تتسلم زمام السلطة وبين أغلبية السكان الفلاحين، إن الفلاحين مستاءون من شكل العلاقات وإنهم لا يريدوا أن يعيشوا بعد اليوم على هذا النحو، وينبغي لنا أن نأخذ رغبتهم بعين الاعتبار، وبذلك قرر المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي في روسيا الاستعاضة عن التأمين والمصادرة بالضريبة العينية.حققت المرحلة الانتقالية السياسة الاقتصادية الجديدة ” النيب” نجاحات ملموسة في مجال إعادة بناء الاقتصاد السوفيتي المدمر من أثار الحروب الداخلية والخارجية، لم تدم هذه المرحلة طويلا فقد أعاد ستالين اقتصاد شيوعية الثكنات من جديد، ورافق هذا التوجه حملة واسعة من القمع والإرهاب طالت ملايين البشر لفرض النموذح الستاليني بالقوة، باستيلاء الدولة على مختلف إشكال الملكية في الأرياف والمدن، وإدارة الاقتصاد بأسلوب أوامري بيروقراطي.كان لتصدي شعوب الاتحاد السوفيتي للعدوان النازي، والتحام الدولة والحزب والشعب في معركة واحدة ضد المحتلين النازيين، والانتصار العظيم الذي حققته الدولة السوفيتية، ودخول الجيوش السوفيتية برلين وعواصم شرق أوروبا اكبر الأثر على خروج الاتحاد السوفيتي من عزلته، وإعطاء الدولة السوفيتية دعما وزخما هائلا, مكنها من البروز كقوة عظمى لا يمكن تجاهلها في أي قضية تطرح على بساط البحث، وكاتجاه رئيسي في الصراع الدولي والحرب الباردة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، وتعزز هذا الدور بفضل الدعم الذي قدمه الاتحاد السوفيتي لشعوب الدول المستعمرة في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية في نضالها من أجل الاستقلال والتحرر الوطني، كل ذلك اكسب الدولة السوفيتية شرعية وطنية وأممية، الا ان أحلام خورتشوف الوردية بإقامة النظام الشيوعي قبل نهاية القرن العشرين قد تبددت، ودخل الاتحاد السوفيتي في كوما في عصر بريجينيف وخاصة في المرحلة الاخيرة، ولم يتمكن من احراز أي تقدم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وبدأت مظاهر الأزمة في الربع الأخير من القرن الماضي في البروز دون علاج ، وقد أسهم كل من غوربتشوف ويلتسن بالتسريع في انهيار الدولة السوفيتية، والسؤال الهام هل كان الانهيار حتمية تاريخية ..؟ والسؤال الأخر هل كان من الممكن تحقيق الاشتراكية التـــي كتب عنها لينين عشية الثورة او في بداياتها الأولى وقبل طرحه السياسة الاقتصادية الجديدة النيب ..؟ ، اعتقد ان الانهيار لم يكن حتمية تاريخية وكان من الممكن تفاديه لو توفرت الإرادة السياسية لدى قيادة الدولة السوفيتية في وقت مبكر بتحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تخرج الدولة السوفيتية من ألازمة، ليس باتباع سياسات حقبة شيوعية الثكنات، كما إنها ليست الصيغة المبنية على فكرة ” كل حسب حاجته” أي بمعنى إنها ليست المساواتية التي تفقد القدرة على التنافس الحر في ظل تكافؤ الفرص، ولن تقوم على التأميم والمصادرة لكافة الفروع والقطاعات الاقتصادية بغض النظر عن حجمها، وتحويل الطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين والمبدعين الى موظفين في مؤسسة بيروقراطية، فالثروات الأساسية للدولة هي ملك للشعب وينبغي عدم التفريط بها ، كما ان للدولة دور هام يجب القيام به في مجال التنمية الاقتصادية، وفي مجال تحسين وتطوير الخدمات العامة للمجتمع، ووضع الضوابط الكفيلة لمنع الجشع والاستغلال، أي بمعنى الوصول الى صيغة جديدة ،وهذه الصيغة ليست الليبرالية المتوحشة، كما انها ليست رأسمالية الدولة البيروقراطية، لكن الحياة نفسها كفيلة بتقديم صيغ جديدة تلائم مستجدات العصر، شريطة ان تتوفر لدى قيادة الحزب والدولة الدوافع الحقيقية لتوفير الحوافز الكفيلة لتطوير مؤسسات الدولة وتحقيق إصلاح كامل في مختلف مجالات الحياة ، مع ضمان وجود ديمقراطية حقيقية تعكس نبض الشارع ، وتعكس مدى نجاح أو إخفاق القيادة بتحقيق إنجازات سواء في الوضع الاجتماعي وما يتصل بتحسين وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية وتوفير السكن المناسب، وتحقيق رفاهية المجتمع ، مع العناية الفائقة لتحقيق نمو اقتصادي بوتائر عالية تتناسب مع إمكانيات دولة كبرى. يمكن الاستخلاص مما تقدم أن الماركسية ذاتها تحتاج إلى مراجعة وتجديد، ومع انهيار التجربة السوفيتية لم يعد هناك محرمات، وقد برز العديد من المفكرين وبشكل خاص في أوروبا وأمريكا الذين أشاروا إلى الحاجة الموضوعية لرؤية ماركسية نقدية للنظام الرأسمالي بشكله الحالي” النيوليبرالية”، الرأسمالية العولمة، لقد نقد ماركس الرأسمالية ضمن مرحلة تاريخية من تطورها، ونجحت الرأسمالية من الإفلات من أزماتها عبر الصيغ التجديدية التي طرحتها بمراحل مختلفة، مستفيدة من الثورات العلمية والتطورات الهائلة في مجالات التكنولوجيا، أما الماركسية فكان الاقتراب منها من المحرمات وتحولت الى عقيدة جامدة.الفرصة التاريخية مهيأة الآن للاستفادة من الأزمة التي تمر بها النيوليبرالية في علاقاتها مع قوى اجتماعية داخلية وصراعها العنيف مع دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، أي بين المركز والأطراف ” حسب توصيف الدكتور سمير أمين” لتحليل مظاهر الاستغلال الرأسمالي بشكله الجديد وإمكانية تجاوزه والتحرر من الاستغلال والاستلاب والتمييز، وقد برزت حركات سياسية واسعة في طول العالم وعرضه في مواجهة الرأسمالية المتوحشة ” العولمة الرأسمالية” وكان للحركات السياسية التي برزت في أمريكا اللاتينية الدور الأبرز والاهم حيث نجحت هذه الحركات في العديد من الدول في الوصول الى السلطة عبر صناديق الاقتراع، تحت شعارات يسارية بمضمون اجتماعي ” اليسار الاجتماعي”

شهد العالم في العقدين الاخيرين من القرن الماضي تطورات هامة على مختلف الاصعدة الدولية والاقليمية والعربية, وقد تميز الوضع الدولي بتفرد الولايات المتحدة الامريكية بالهيمنة على العالم في ظل العولمة الرأسمالية وصعود الليبرالية الجديدة وسعيها المتواصل لفرض نفوذها وايدويولوجيتها على كافة ارجاء المعمورة مستخدمة ثقلها السياسي والاقتصادي وكذلك العسكري لاخضاع العالم لمصالحها ولرؤيتها الفكرية والسياسية, وقد استغلت المؤسسات الدولية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية كاذرع لفرض سياستها بالقوة, دون ادنى اعتبار للنتائج الكارثية التي افرزتها هذه السياسة, وقد برزت مفاعيلها بالاثار الناجمة عن سياستها هذه في البلدان النامية, بالجوانب الاقتصادية والمالية والنقدية, بدءا من تحميل الفئات الشعبية زيادة العبء الضريبي وانتهاء بفرض سياسة الخصخصة, وتحرير التجارة وتحرير الاسعار, وما تعنيه هذه السياسات من نتائج مؤلمة على الفئات الشعبية.اما ما يتعلق بالرؤية للتحولات التي جرت على بنية النظام الرأسمالي, واثار ذلك على التناقضات الداخلية في النظام الرأسمالي والتناقض بين العمل ورأس المال. فلم تشهد رؤية ماركس في هذا المجال تطويرا ملحوظا يتناسب مع التطورات الكبيرة التي مرت بها الرأسمالية. قدم ماركس نطريته حول نقد الرأسمالية في اواسط القرن التاسع عشر في مرحلة تاريخية معينة من تطور الرأسمالية, والاستخلاصات التي توصل اليها في تلك الحقبة التاريخية تأتي ضمن سياقها التاريخي, ولا يجوز اسقاطها على كل زمان ومكان فالظواهر التي درسها ماركس في حياته هي في تحول مستمر, بفضل الانجازات التي حققتها البشرية في مجال العلم والتكنولوجيا والتي كشفت عن مظاهر جديدة للنظام الرأسمالي التي تحتاج الى دراسة معمقة لاستيعاب اثار المستجدات العلمية في النظام الرأسمالي, وهي بمثابة انقلاب على مفاهيم الرأسمالية في مراحل تطورها الاولى رغم احتفاظها بالجوهر, وتجلى هذا بالتكيف مع مواجهة المستجدات, وكان ابرزها مواجهة الازمات الاقتصادية التي شهدها النظام الرأسمالي في بداية القرن العشرين خلال اعوام 1929-1933 والتي كادت تعصف بالنظام الرأسمالي في معظم الدول الصناعية, مما حدا بالمفكرين الاقتصاديين في النظام الرأسمالي بالتدخل لانقاذ هذا النظام من الانهيار, وقد برزت الفلسفة الاقتصادية الكنزية كبديل للفكر الكلاسيكي ومنقذ للنظام الرأسمالي, وشكلت انقلابا جوهريا في الفكر الاقتصادي تمثل في تدخل الدولة في مختلف الانشطة الاقتصادية والاجتماعية, متخلية عن محرمات الفكر الرأسمالي الكلاسيكي ومن ابرز خطواتها زيادة الانفاق الحكومي لتخفيض معدلات البطالة, وانشاء منظومة من التشريعات والمؤسسات في مجال التأمينات الاجتماعية والصحية للعمال, بالاضافة الى تأميم قطاعات اقتصادية رئيسية.ادخلت النظرية الكنزية النظام الرأسمالي في مرحلة جديدة وهامة في تاريخها, وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية, فقد حققت اصلاحات جوهرية في النظام الرأسمالي, دون المساس في جوهره, وعمقت البعد الاجتماعي وخففت من الاحتقانات الطبقية, وشكلت حالة توازن نسبي في المجتمع, مستفيدة من سيطرة البلدان الرأسمالية على معظم بلدان آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية, في نهب خيراتها والحصول على النفط والمواد الخام باسعار زهيدة, ومستغلة اسواق هذه البلدان لتصريف فائض انتاجها, كل ذلك ساهم في امتصاص الازمات الاقتصادية, ووفر ربحية عالية وامكانيات ضخمة سهلت على الاحتكارات الرأسمالية امكانية الوصول الى صيغ واتفاقيات مع النقابات العمالية, لزيادة اجور العمال وتحقيق خدمات صحية واجتماعية, مما خفف من حدة الصراع الطبقي, الذي برز بصورة جلية في بداية القرن الماضي وعلى الرغم من النجاحات التي حققتها السياسة الاقتصادية الكنزية, فقد افرزت نتائج غير محسوبة وكان من اهمها, زيادة عجز الموازنة, الناتجة عن تخصيص مبالغ اضافية للانفاق الحكومي, مما ترتب على ذلك, زيادة الضرائب لتغطية النفقات وتخفيض العجز, وقد تعالت اصوات النقديين »نيوكلاسيك« مشككة بامكانية الاستمرار في البرنامج الاجتماعي, بسبب الثمن الباهظ لهذه السياسة. وقد شكل الانهيار الدراماتيكي للنظام الشمولي في الاتحاد السوفيتي واوروبا الشرقية انتصارا للاتجاه المتشدد في البلدان الرأسمالية, وبدأ الهجوم الكاسح على السياسة الكثرية والسياسة الاشتراكية على حد سواء, وعلى القطاع العام, وعلى كافة اشكال تدخل الدولة في ادارة الاقتصاد, وعلى المكتسبات العمالية ومختلف اشكال الدعم للخدمات.توقع ماركس, مع تطور الرأسمالية وزيادة تشديد الاستغلال بهدف تحقيق اعلى درجات الربح, زيادة الافقار, الذي سيؤدي الى تحويل غالبية السكان الى بروليتاريا, بما في ذلك الفئات الوسطى التي سوف تنقل الى البروليتاريا المعرفة, وفعلاً استمرت هذه الظاهرة بالتحقق حتى منتصف القرن العشرين. فيما بعد بدأت تبرز مظاهر جديدة بفضل تقدم العلوم في مختلف مجالات الحياة, ادخلت الرأسمالية مرحلة جديدة من تطورها استندت على التقنيات الحديثة للمعلوماتية والاتصالات, حيث بدأت تتقلص الطبقة العاملة وتتسع الطبقة الوسطى في المجتمع, لقد ادت الثورة العلمية في شتى ميادين الحياة الى رفع الانتاجية بشكل يفوق كل التصورات, والى تمركز رأس المال وتكديس الثروة واستثمارها في تطوير العلوم والتكنولوجيا, وتوسيع الخدمات في المجتمع الرأسمالي, وانتاج ثقافة واعلام لمواكبة التطور الرأسمالي, وتمكينه من ادارة الحكم والهيمنة على العالم, لم يقف المفكرون الماركسيون المعاصرون عند هذه الظاهرة, لتحليلها وطرح استنتاجات بصددها بقيت الاحزاب الشيوعية تردد الافكار والاستخلاصات التي وصل اليها ماركس في القرن التاسع عشر, دون الانتباه للمتغيرات الهائلة التي يشهدها النظام الرأسمالي, ومع ذلك لا يمكن اعتبار ما وصلت اليه الرأسمالية في هذه المرحلة هو الشكل النهائي لتطورها, او نهاية التاريخ حسب النظرية الرجعية ل¯ »فوكوياما«.لقد برزت مظاهر جديدة للرأسمالية في ظل احادية القطبية والعولمة, تجلت بمظاهر فاشية وعدوانية شرسة ومحاولة الهيمنة الكاملة على العالم, وخاصة من قبل الولايات المتحدة الامريكية بقيادة اليمين المحافظ, برزت في ابشع صورها في احتلال العراق وتدمير الدولة واشعال الحروب الاهلية وتشجيع النزعة الانفصالية لمنع الشعب العراقي من اعادة اللحمة وتحقيق الوحدة الوطنية لدولة تمتد جذور حضارتها الى اعماق التاريخ, وكذلك تشجيع المحتلين الصهاينة على ارتكاب ابشع الجرائم في فلسطين ولبنان, فالحصار المفروض على الشعب الفلسطيني والقتل والتدمير اليومي الذي تشهده الاراضي الفلسطينية بالاضافة الى جدار الفصل العنصري والانتشار السرطاني للمستوطنات الاسرائيلية في الاراضي العربية المحتلة وتقطيع اوصال الضفة الغربية لشطب اي امكانية لقيام دولة فلسطينية,كل ذلك يتم بتشجيع اليمين المحافظ والليبرالية الجديدة في البيت الابيض, اما الحرب القذرة التي خاضتها اسرائيل في لبنان بهدف سحق المقاومة وتدمير لبنان ومحاولة اشعال فتنة طائفية وارغام اللبنانيين على الاستسلام وتوقيع معاهدات مذلة مع الاسرائيليين. فقد جاءت بتخطيط وتنسيق مشترك مع الادارة الامريكية, وهي تواصل تدخلها البشع في الشؤون الداخلية للدول المستقلة وومحاولاتها المتواصلة لفرض وصياتها على العالم, وفرض الليبرالية كنمط اقتصادي وحيد, لا شك ان توازن الرعب الذي ساد في ظل الحرب الباردة كان كابحا للانفلات الامبريالي, فالغطرسة والزعرنة التي تمارسها اسرائيل وامريكا في العالم بصورة عامة وفي الوطن العربي والشرق الاوسط على وجه الخصوص لم يكن ممكنا ممارستها في ظل الحرب الباردة وتوازن الرعب في العالم, وهذا ليس تقييماً ايجابياً لتلك الحقبة بكافة جوانبها, فقد حملت سلبيات لا حصر لها, الا انها وفرت مناخا عالمياً ملائماً لانجاز استقلال عشرات الدول في القارات الثلاث.

احالت الحكومة مشروع قانون ضريبة الدخل الى مجلس النواب لمناقشته وبدوره المجلس احال المشروع الى اللجنة المالية لتقديم مقترحاتها, ويعتبر قانون ضريبة الدخل من اهم القوانين الاقتصادية والاجتماعية التي تحدد مسار وتوجه الحكومة تجاه مختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية. تناولت في مقال سابق اثر السياسة الضريبية التي تنتهجها الحكومة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وبشكل خاص على القطاعات المنتجة الصناعة والزراعة وكذلك اثر هذه السياسات على البطالة وارى من المفيد استكمال البحث في هذا المشروع لأهميته.غني عن القول ان المشروع طرح في سياق الحوار الهادف لتحقيق اصلاح ضريبي, ذي بعدين الاول تحقيق العدالة الاجتماعية, والثاني زيادة اسهام الفئات والشرائح العليا في المجتمع في ايرادات الخزينة, وبالتالي زيادة مساهمة ضريبة الدخل في تخفيض عجز الموازنة التي وصلت الى ارقام قياسية خطيرة جدا ولا يستطيع اي مسؤول اغماض العين عنها, ويكفي الاشارة الى ما قاله وزير المالية في خطاب الموازنة امام مجلس النواب في 21/12/2005 »عجز الموازنة لامس حاجز المليار دينار اي ما نسبته 11.2% من الناتج المحلي والاجمالي« مع ضرورة الانتباه الى ان مساهمة ضريبة الدخل في ايرادات الخزينة متواضعة جدا, فقد بلغت (282.500) مليون دينار عام 2005 اي حوالي 3.1% من الناتج المحلي الاجمالي. علما ان مجمل الايرادات الضريبية لنفس العام بلغت 1765.8 مليون دينار, معظمها من ضريبة المبيعات, مما يبرر البحث عن اجراءات كفيلة بزيادة ايرادات الخزينة من ضريبة الدخل, وقد جاء تعديل المادة (2) من قانون ضريبة الدخل بالغاء استثناء شركات التضامن والتوصية البسيطة من قائمة الشركات, واخضاع هذه الشركات الى نسبة 20% من الضريبة اي مساواتها بالشركات المساهمة كالبنوك وشركات التأمين والشركات المالية والاتصالات, وعلى الرغم من اهمية اهتمام الحكومة بزيادة ايرادات ضريبة الدخل اذا كانت مهتمة فعلا, الا ان هذا الاجراء قد يكون مجحفا بحق الفئات والشرائح التي تملك هذه الشركات ويمكن تصنيفها بالفئات الوسطى, وقد صنفها القانون الحالي بالافراد وتتمتع بالاعفاءات الشخصية والعائلية وتخضع لنسبة ضريبية تصاعدية تبدأ بـ 5% حسب القانون الحالي, المشروع حرم هذه الفئات من الاعفاءات واخضعها الى نسبة 20%, وبذلك يكون المشروع اخضع جميع الشركات لضريبة موحدة, واسقط مبدأ الضريبة التصاعدية عن الشركات, خلافا لما هو وارد في الدستور.اما التعديل المدهش الذي لا يمت بصلة للاصلاح الضريبي ولا للعدالة الاجتماعية هو تخفيض ايرادات الخزينة من دون مبرر من قطاعات البنوك من 35% الى 20% وشركات التأمين من 25% الى 20% علما ان هذه القطاعات تحقق ارباحا عالية وهي في مقدمة القطاعات الاخرى في تحقيق معدلات مرتفعة في الربح, وفي دراسة مالية حول اداء 13 بنكا مدرجا في بورصة عمان اجرتها مجموعة الاهلي للاستثمارات البنكية ونشرتها »العرب اليوم« في 27/8/2006 تشير الى ان صافي الربح للعينة ارتفع بنسبة 17.2% خلال النصف الاول من هذا العام, وذلك بسبب انتعاش صافي ايرادات الفوائد بنسبة 40.4% حوالي 471.5 مليون دينار, مما يعني ضرورة واهمية زيادة مساهمة هذا القطاع بايرادات الخزينة لتخفيض عجز الموازنة, اما التوقعات المنتظرة لنتائج هذا المشروع في حال اقراره بصيغته الحالية تخفيض ايرادات الحزينة من ضريبة الدخل, فالزيادة المتوقعة من ضريبة الدخل من شركات التضامن والتوصية البسيطة لا تغطي العجز المتوقع من تخفيض الايرادات الضريبية من قطاع البنوك وشركات التأمين.اما بخصوص انجاز الحكومة المتمثل بإعفاء 90% من المواطنين من ضريبة الدخل حسب تأكيدات رئيس الوزراء في اكثر من مناسبة, لا شك انها خطوة بالاتجاه الصحيح, الا ان اشارة الرئيس هذه تثير تساؤلات هامة وتفتح ملف مستويات للدخول للبحث, ويمكن قراءتها بأن 90% من المواطنين غير قادرين على دفع ضريبة الدخل, اي ان الثروة مركزة بأيدي حفنة قليلة من الاغنياء وبالعودة الى ارقام دائرة الإحصاءات العامة نجد ان الاسر التي يزيد دخلها على (12000) دينار سنويا تساوي (56177) اسرة مكونة من (385150) شخصا ما نسبته 7% من مجموع السكان, مما تثير هذه المعلومات القلق الشديد حيال الفجوة الكبيرة بين الفئات والشرائح والطبقات الاجتماعية, الامر الذي يقضي اخضاع السياسات الاقتصادية والاجتماعية لصالح تضييق الفجوة وترميم الخلل الكبير الذي احدثته السياسة الاقتصادية للحكومات المتعاقبة والتي ادت الى افقار الفئات الشعبية والاطاحة بالطبقة الوسطى, هذه السياسات الانكماشية التي فرضتها املاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وما تبعها من اجراءات للتكيف مع شروط منظمة التجارة العالمية.التوجهات الحكومية المتمثلة في مشروع قانون ضريبة الدخل تدفع باتجاه تعميق الفجوة وخاصة ما يتعلق بزيادة العبء الضريبي على المؤسسات الصغيرة وتخفيض العبء الضريبي على القطاعات القادرة على الدفع, سوف تعمق الاحتقانات الاجتماعية وتهدد بآثار غير محمودة النتائج.